في الماضي القريب كان الصدق في القول والفعل هو الغالب بين البشر ، فكان المتحدث وان كان غريبا يتحرى الصدق في كل ما ينطق به بينما المتلقي لا يرتاب في صدق الحديث ولا يتوجس خيفة في أمر ما سمعه ، وكان الجميع يفترض حسن النية في الآخر إلى أن يثبت العكس ، فإن ثبت العكس وكذبه الناس يتوارى المتحدث عن الأنظار خجلًا ويبذل كل ما في وسعه لتبرير فعله وقد يستميت لاعادة ثقة من حوله وخاصة داخل الدائرة المقربة منه .
اليوم ، وليس هنا فقط ، غاب الصدق واستشرى الكذب واستفحل وتوغل وبات هو القاعدة والصدق نشازًا .. وتغلب الشك على اليقين وفقدت الثقة واختلط الحق بالباطل وتساوى الكاذب مع الصادق ، وتلاشت النوايا الحسنة من هول التجارب التي مررنا بها سواء كانت من محيطنا الضيق أو من أفراد فرض علينا التعامل معهم ، ولا فرق هنا بين الكذبة التي أتتك من موثوق به او تلك التي تأتيك مصادفة فالأولى متوقعة والثانية مرجحة .
وللكذب أشكال مختلفة فالحقيقة المنقوصة شكل من أشكال الكذب ، وإخفائها كذب أكبر واختلاق الوقائع يعد كذبا ، والتلاعب بالالفاظ كذب ، والمعلومة غير الدقيقة كذب ، وادعاء البطولة كذب ، والتجني على الآخر كذب والقائمة تطول .. وللكذاب أقنعة يتخفى من ورائها ليطلق أكاذيبه فبعضهم يرتدي ثوب البراءة وبعضهم يتظاهر بالطيبة وآخر يتسلح بالقسم وهذا ابغضهم ، والكذاب هو من اعتاد الكذب ومن كثرة ما كذب صدق نفسه ، وان أخطأ وقال الحقيقة لا تصدقه ، وكما للكذب أشكال فله ألوان فهذا ابيض وهذا اسود وهذا رمادي واختار من بين الألوان ما ترغب .
كان لي صديق احترمه ولهً وقار وما كنت أظنه كذابا ، فملامح وجهه وحلاوة لسانه لا توحي الا بالصدق ولكني فجعت فيه بعدما اقتربت منه أكثر حيث وجدت نفسي أمام كذاب محترف الكذب ، ولم اكتشف كذبه الا بعد فترة مع توالي لقاءاتنا وتعدد احاديثنا ففي كل مرة كان يكذب فيها لم ارد أن أوقفه متوسما فيه السهو والعفوية ، إلى أن قررت يوما أن أواجهه بكذبه فقلت له ياصديقي أنت قلت لفلان كذا وكذا وهذا ليس صحيحا فلماذا كذبت ، فقال لي أنني لم أكذب وما رأيته انت كذبًا رآه هو صدقا والسبب في ذلك أنه سأل عن موضوع بعينه وأنا أجبته عن موضوع آخر كان في ذهني مشابه لموضوعه فمشكلته أنه صدق دون أن يتأكد ومشكلتك أنك تعلم الصواب فكذبتني دون أن تستفسر ، فقلت لصديقي الكذاب انك ضللته وقد صدقك لأنك أقسمت بالله ، فجاءت إجابته غريبة ومفزعة وفي نفس الوقت طريفة وفكاهية فقال الكذاب إنني لم اقسم بالله ، فقلت له بلا لقد أقسمت وقد سمعنا قسمك ، فقال ان كنتم سمعتوني أقول ( والله ) فلديكم خلل في السمع فقد قلت ( واطاهي ) .
ومن تلك اللحظة قطعت علاقتي بصديقي الكذاب ولم آراه منذ أكثر من سنة ولا أرغب في رؤيته ثانية واطاهي !