الفساد ظاهرة عالمية تعاني منها معظم بلدان العالم تقريباً ، وعلى الرغم من كل الشعارات والتعهدات التي يرفعها القادة والزعماء ، وعلى الرغم من كل الجهود التي تبذلها الحكومات لمحاربته ، إلا أن ما يتم ضبطه لا يتجاوز بالكاد ما نسبته عشرة بالمائة من مجموع جرائم الفساد التي تُرتكب .
أما الفساد في أرض الكنانة فله مذاق آخر ، فقد تفوق المصريون على أنفسهم من حيث الابتكار في أشكاله ، والابتداع في أنماطه ، والانفراد في تنفيذه ، نحن نختلف عن الآخرين في هذا المجال ، فلدينا القدرة على استحداث أنواع شتى من الفساد تجلب الرزق الحرام من دون عناء .
في السنوات الأربع الماضية كثفت الدولة المصرية من جهودها لمحاربة الفساد واستئصال جذوره من المجتمع بعد أن استشرى وتوغل وطال أجهزة ومؤسسات ، ولقد استطاعت الجهات الرقابية والمحاسبية من ضبط عدد غير قليل من قضايا الفساد الكبرى وإحالة مرتكبوها إلى القضاء ، وكان جديداً ومستغرباً علينا أن يتم الإفصاح عن تفاصيل هذه القضايا عبر الوسائل الإعلامية المتاحة مقرونة بالأدلة الصوتية والمرئية ، أما وجه الاستغراب فيعود إلى الأسماء التي ضمتها بعض من هذه القضايا التي تورط فيها مجموعة من كبار المسئولين في الدولة من بينهم وزراء ومحافظين ونواب محافظين وشخصيات عامة ، وهو ما لم يكن معتاداً في السابق ، ولقد قال قضاؤنا العادل الكلمة الفصل في عدد من هذه القضايا فأدين من أدين وصدرت أحكام نافذة في حق البعض منهم وهم الآن قابعون خلف القضبان يقضون فترات عقوبتهم بعد أن خانوا الأمانة وعاثوا في الأرض فسادا مستغلين نفوذهم وسلطاتهم ليتربحوا وتتضاعف ثرواتهم فكان ذاك جزاؤهم .
نعلم أن الدولة عازمة على الاستمرار في جهودها لتطهير مؤسساتها من كافة أشكال الفساد ولن يفلت أي فاسد من المحاسبة والعقاب ولو بعد حين ، لكن هناك فساد من نوع آخر ينتشر بكثرة في ربوع الوطن دون رقيب أو حسيب ، وهو اختراع مصري يتمتع بكافة حقوق الملكية الفكرية ، تراه في بعض الدوائر الخدمية كإدارات المرور مثلا والبطل فيها هو رافع البصمات الذي لا يمد يده إلى أي سيارة إلا بعد الحصول على المقابل من صاحبها ، وأينما تراه تجد جيوب سترته وبنطاله وقد انتفخت من كثرة ما تحصل عليه من مال حرام فيغيب عن الأنظار للحظات لتفريغها ثم يعود لتعبئتها مرة ومرات حتى تنتهي ورديته ، هذا نموذج من الفساد الخفي وصاحبه يتحصل شهرياً على أضعاف ما يتحصل عليه رئيس الحكومة وكل الوزراء المعينين في وزارته ، لكنه بعيد عن المحاسبة رغم أنه قريب من أنظار رؤسائه .
وعلى شاكلة رافع البصمة نجد السايس في الشارع الذي لايقدم أي خدمة للمواطن ولكنه يحصل على المال عنوة من قائد السيارة ، وعامل الكارتة في مواقف الأجرة الذي يحصل على ثمن الكارتة من السائق ولا يعطيه إيصالا للدفع ، أما موظفي مكاتب الشهر العقاري فقد أبرموا اتفاقات مع أصحاب المقاهي المجاورة على استلام معاملات المراجعين من داخل المقهى لتخليصها دون انتظار وذلك مقابل مبالغ يتقاسمونها فيما بينهم ، وكذا الوضع عند مقرات التصديقات التابعة لوزارة الخارجية وعدد من الدوائر لا مجال لذكرها ، وغيرها وغيرها ..
إنه الفساد الأصغر الذي يحتاج إلى نظرة من الأجهزة الرقابية فهو يدمر الاقتصاد وينخر الجيوب ويشوه المجتمع .